يتبين أن الهوية بهذا المعنى تتكلم عن وحدة الشيء، لا من حيث هو متعدد وكثرة، وإنما من حيث هو ذاته نفس الشيء، وليس شيئا آخر؛ أي إنها تتحدث عما يجمع الشيء ويوحده لكي يظهر في الوجود، إلا أن هذا لا يجب أن يقودنا إلى الفهم من أن الوحدة التي يتحدث عنها المبدأ هي "ليست إطلاقا فراغ ما. قد جرد في ذاته من كل علاقة بل إنه يصمد ويتشبث بتماثل شاحب"، وإنما هي بالأحرى تعكس بوضوح علاقة المماثل مع نفسه، فلم يعد لنا الحق حسب هيدجر منذ مرحلة المثالية النظرية التي مهد لها لايبنتز وكانط وأعد لها كل من فيخته وشلينغ وهيجل "بتمثيل وحدة الهوية بكونها التماثل البسيط، وبإهمال التوسط الذي يتأكد في صميم الوحدة".
ولكي نفهم ما يعنيه "هيدجر" بمبدأ الهوية؛ لنلاحظ كيف يتحدث عن كينونة الكائن، ولكل كائن ككائن الحق بالهوية، بالوحدة مع ذاته، فإنه يعود بنا إلى الوراء إلى ما قبل سقراط، لنتعرف على العلاقة بين التفكير والكينونة وعلى وجه التحديد عند "بارميندس". مع هيدجر لا يمكننا الانطلاق من هوية الميتافيزيقا لتفسير الهوية كما فهمها بارميندس؛ لأن كلمة المماثل ) le même) في حكمة بارميندس تبقى غامضة في نظر هيدجر. لذلك، سينتقل للحديث عن هوية الفكر والكينونة بتعريفهما كانتماء مشترك (coappartenance) لكليهما، وفي هذا الإطار سيعطي هيدجر لهذا الانتماء المشترك عدة تحديدات، ربما ليثبت أصالة رؤيته أو ليكشف عن الماهية الحقيقية لهذا الانتماء المشترك، وفي تحديده لهذا الأخير يقول: "إذا لاحظنا أننا فيما نحن نفسر الانتماء المشترك كانتماء مشترك كنا نفكر قبلا تبعا لإشارة بارميندس بالفكر والكينونة على السواء، إذا إلى ما ينتمي واحده إلى الأخر في المماثل (le même). إلى هنا فلن يتسنى لنا فهم ما يريد قوله "هيدجر" ما لم ننتبه إلى ما يميز الإنسان عن باقي الموجودات؛ فما الذي يميز الإنسان من حيث هو إنسان؟ يجيب هيدجر قائلا: "إننا نفهم التفكير بوصفه تمييزا للإنسان" الإنسان في الظاهر هو كباقي الكائنات له مكانه في كلية الكينونة كالحجر والشجر حسب هيدجر، لكن له مكانه أيضا في تنظيم الكينونة وبوصفه كائنا مفكرا، منفتحا على الكينونة هو من يترك هذه الأخيرة تأتي إليه كحضور أولا. إن الكينونة تحضر فينا أو بالأحرى تسكن فينا. ومن هذا المنطلق، فإن الإنسان والكينونة يمتلك بعضهما البعض، يقول هيدجر: "إن الإنسان والكينونة كليهما يتبادلان نقل تملكهما لبعضهما بعضا إنهما ينتميان لبعضهما بعضا" ما ينبغي أن نسجله هنا، هو أن هذه العلاقة بين الكينونة والإنسان تبقى علاقة ذات خصوصية شديدة.
إلى أين هذه القفزة ستقودنا يتساءل هيدجر، إلى المجال الذي يصل فيه كل من الإنسان والكينونة إلى بعضهما البعض في جوهرهما؛ لأن كلا منهما يؤدي إلى الآخر ويملك كل منهما الآخر، كما إننا سنتخلى بهذه القفزة عن التفكير في الكينونة بوصفها أساسا للكائن، كما يقول هيدجر: "لقد ولّى زمان كانت فيه التفسيرات المفصلة لتكون ضرورية لتبين وتوضيح المجموعة، حيث يدور الإنسان والكينونة كل باتجاه الآخر". لم يعد الأمر اليوم كما كان عليه، أو على الأقل أن الأمر يبدو كذلك حسب هيدجر، يتساءل عن كيف تكون الكينونة حاضرة اليوم في العالم التقني؟. يقول: "لنكف عن تصور التقنية بطريقة محض تقنية، انطلاقا من الإنسان وآلاته"؛ فالإنسان المعاصر مرغم، أمامه تحديات تواجهه والمصطلح الذي يعبر به هيدجر عن هذه التحديات هو "الإطار". يقول: هذا الإطار، التحقق هو الاسم الذي اقترحناه للدلالة على نمط الإرغام المنسق الذي الإنسان والكينونة على نحو يستجوب فيه الواحد منهما الآخر". إن هذا الإطار في جوهره حسب هيدجر يكشف عن انتماء الإنسان للكينونة، وانتماء الكينونة للإنسان، حيث ينسب الإنسان والكينونة لبعضهما في عالم التقنية، حيث يقول هيدجر: "إن ما بواسطته يتجه الإنسان والكينونة نحو بعضهما بعض وانطلاقا منه في العالم التقني هو ما يخاطبنا في نمط التحقق".
في هذا الاستجواب المتبادل بين الإنسان والكينونة نسمع النداء الذي يعطي صورته لمجموعة عصرنا. إن التحقق حسب هيدجر، أينما كان يعنينا بشكل مباشر في هذا التحقق "يسود تلاق غريب بين تبعية من جهة وانتباه من جهة أخرى" ما يهم هيدجر في هذا التحقق هو العلاقة، والذي بواسطته يختص كلا من الإنسان والكينونة واحدهما بالآخر؛ أي إن الأمر يتعلق ببلوغ ما يسميه التملك المشتركCopropriation))، سيتحدث هنا عما يسميه بالحدث ) Ereignis)، والذي يعني به ما يصل كل من الإنسان والكينونة إلى بعضهما في ماهيتهما، ومن خلالها أيضا يكتسبان ماهيتهما. أما التملك المشترك، فهو الرابط الأساسي بين الإنسان والكينونة، ولهذا رجع هيدجر لحكمة بارميندس دليلا على أن "المماثل هو في الحقيقة الفكر والكينونة على السواء"، ولأن التساؤل عما هو المماثل هو التساؤل عن جوهر الهوية، وجوهر الهوية ينتمي شخصيا إلى التملك المشترك. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف أثر العالم التقني ومهد لما يسميه هيدجر بالتملك المشترك؟ فهذا العالم التقني اليوم يشهد واقعنا بتفوقه على الفكر "يبقى الفكر في منتصف الطريق وبهذه النتيجة النصفية يشهد العالم التقني، أكثر فأكثر تفوقه الميتافيزيقي، عندها فعلا يتوطد هذا التفوق".
خاتمة:
قد يتساءل المرء ما علاقة كل هذا بالهوية؟ ما الذي تعنيه هذه الهوية الجديدة إن صح القول؟ الهوية هي انتماء التفكير الذي هو خاصية يتميز بها الإنسان دون الكائنات الأخرى؛ فأن تكون لك هوية يعني أن تكون منتميا إلى الوجود، من حيث ممارسة إمكانية التفكير، ولكي نفهم ونستوعب هذا يجب أن نتخلى عن طرائق التفكير السائدة، ويجب أن لا نقبل بأن تبتلعنا التقنية."
د. عبد الحيّ البوكيلي
Post a Comment